مجالس قبيلة زعب  

 


العودة   مجالس قبيلة زعب > المجالس العامة > المجلس الإسلامي

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 20th April 2006, 07:13   #3
عطر المجالس
عضــــو نشيــط
 
تاريخ التسجيل: Oct 2003
المشاركات: 137
وهكذا عجز نظام الرهبنة، المنبثق من تصورات كنسية ومجمعية منحرفة عن اصل التصور النصراني الرباني، عن أن يكون حتى نظاماً أخلاقياً للعالم النصراني. وخلف في النفوس جفوة للدين-والدين منه براء!-وترك فيها تحفزاً للانتقاض عليه وعلى نظامه الذي لا تطيقه الفطرة.. وكان عاملاً نكداً من عوامل ذلك ( الفصام النكد) في نهاية المطاف!

* * *

ثم كانت الطامة يوم اكتشف الناس، الذين تأخذهم الكنيسة بهذا الحرمان القاسي، وتنذرهم باستحالة نفاذهم إلى الجنة إذا هم زاولوا من طيبات الحياة شيئاً!..

نقول: كانت الطامة يوم اكتشف الناس ان حياة رجال الكنيسة الشخصية، لا تعج بالمتاع بالطيبات فحسب! ولا تسقط في الترف فحسب! وإنما هي تعج بالفواحش والمناكر في اشد صورها شذوذاً وفحشاً ونكراً!

يقول درابر في كتابه: (الدين والعلم):

لم تكن الرهبانية والنظام الديني السلبي إلا مصادمة للفطرة. فبقيت مقهورة بعوامل الديانة الجديدة وسلطانها الروحي، وساعدتها عوامل أخرى. ثم قهرت الطبيعة، وتسرب الضعف والانحراف إلى المراكز الدينية، حتى صارت تزاحم المراكز الدنيوية-وربما تسبقها في فساد الأخلاق والدعارة والفجور. لذلك وقفت الحكومة المآدب الدينية، والأولياء وذكرياتهم، التي وجدت فيها الخلاعة والفجور حمى ومرتعاً، واتهم القسوس بكبائر ومنكرات.

(ويقول الراهب جروم (jerume) : ان عيش القسوس ونعيمهم كان يزري بترف الأمراء والأغنياء المترفين. وقد انحطت أخلاق البابوات انحطاطاً عظيماً، واستحوذ عليهم الجشع وحب المال، وعدوا طورهم، حتى انهم كانوا يبيعون المناصب والوظائف كالسلع، وقد تباع بالمزاد العلني، ويؤجرون ارض الجنة بالوثائق والصكوك وتذاكر الغفران، ويأذنون بنقض القانون، ويمنحون شهادات النجاة، وأجازات حل المحرمات والمحظورات، كأوراق النقد وطوابع البريد، ويرتشون ويرابون. وقد بذروا المال تبذيراً، حتى اضطر البابا (إنوسنت الثامن) أن يرهن تاج البابوية! ويذكر عن البابا (ليو العاشر) انه انفق ما ترك البابا السابق من ثروة واموال، وانفق نصيبه ودخله، واخذ إيراد خليفته المترقب سلفاً وأنفقه! ويروى ان مجموع دخل فرنسا لم يكن يكفي البابوات لنفقاتهم وإرضاء شهواتهم!) ([6]).

ومسألة صكوك الغفران التي يشير إليها درابر في الفقرة السابقة، كانت الكنيسة قد قررت أن تمنح لنفسها الحق في إعطائها في أحد المجامع الكنسية الكثيرة، التي كانت تجتمع بين الحين والحين. وتغير وتبدل وتحرف وتنشئ وتضيف ما تشاؤه الأهواء (المقدسة!) إلى العقيدة النصرانية!

(وقد جاء في كتاب: تاريخ الكنيسة في بيان قرار المجمع الثاني عشر في هذا الشأن:

(أنهى المجمع تعليمه، فيما يتعلق بأمر الغفران، فقال: ان يسوع المسيح لما كان قد قلد كنيسته سلطان منح الغفرانات ، وقد استعملت الكنيسة هذا السلطان الذي نالته من العلي منذ الأيام الأولى، قد أعلم المجمع المقدس وأمر، بان تحفظه للكنيسة، في الكنيسة، هذه العملية الخلاصية للشعب المسيحي، والمثبتة بسلطان المجامع.. ثم ضرب بسيف الحرمان من يزعمون ان الغفرانات غير مفيده، او ينكرون على الكنيسة سلطان منحها. غير انه قد رغب في ان يستعمل هذا السلطان باعتدال واحتراز، حسب العادة المحفوظة قديماً، والمثبتة في الكنيسة، لئلا يمس التهذيب الكنسي تراخ بفرط التساهل).

"…وهذا نص صك الغفران، الذي كان يباع بيع السلعة":

(ربنا يسوع يرحمك (يا فلان)، ويحلك باستحقاقات الآمة الكلية القداسة. وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي، احلك من جميع القصاصات، والأحكام والطائلات الكنسية التي استوجبتها وأيضاً من جميع الإفراط والخطايا والذنوب التي ارتكبتها-مهما كانت عظيمة وفظيعة- ومن كل علة-وان كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا والكرسي الرسولي- وأمحو جميع أقذار الذنب، وكل علامات الملامة، التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة. وارفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في المطهر؛ وأردك حديثاً إلى الشركة في أسرار الكنيسة، وأقرنك في شركة القديسين. أردك ثانية إلى الطهارة والبر اللذين كانا لك عند معموديتك، حتى انه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخطأ إلى محل العذاب والعقاب، ويفتح الباب الذي يؤدي الى فردوس الفرح. وان لم تمت سنين مستطيلة، فهذه النعمة تبقى غير متغيرة، حتى تأتي ساعتك الأخيرة.. باسم الأب والابن والروح القدس..) ([7]).

فإذا أضفنا هذه إلى تلك.. إذا أضفنا عنت الكنيسة في اخذ الناس بالحرمان القاسي، باسم الدين-والدين بريء!- إلى ترف رجال الكنيسة وفساد حياتهم.. إلى مهزلة صكوك الغفران، أدركنا طرفاً من تلك الملابسات النكدة، التي أدت في النهاية إلى (الفصام النكد) في تاريخ أوروبا المنكود!..

* * *

غير أن الأمر لم يقف عند هذه الحدود.. فقد دخلت الكنيسة في نزاع طويل وحاد مع الأباطرة والملوك-لا على الدين والأخلاق- ولكن على السلطة والنفوذ.

وبدأ النزاع والمنافسة بين البابوية والإمبراطورية في القرن الحادي عشر، فاشتدت بعنف، وحمى وطيسها، وانتصرت فيها البابوية أولاً حتى أن هنري الرابع ممثل الإمبراطورية اضطر في سنة 1077م أن يتقدم بخضوع نحو البلاط البابوي في قلعة كانوسا.. ولم يسمح له البابا بالدخول إلا بعد أن يشفع له الرجال، فسمح له بالمثول بين يديه، فدخل الإمبراطور حافياً. لابساً الصوف، وتاب على يديه؛ فغفر له البابا زلته.. وكانت الحرب بين البابوية والإمبراطورية بعد ذلك سجالاً حتى ضعفت البابوية([8]).

وقد حدث في سنة 1245-كما جاء في كتاب (سوسنة سليمان)-أن المجمع الثالث عشر انعقد في ليون من أعمال فرنسا، بأمر البابا. (إنوسنت) الرابع، لأجل عزل فردريك ملك فرنسا وحرمه. ولكن كنيسة فرنسا لم تسلم بصحته او بسلطانه! ([9]).

ولما كانت الكنيسة-إلى جوار صراعها مع الأباطرة والملوك على السلطة- قد فرضت لنفسها سلطاناً على الجماهير؛ واستغلته ابشع استغلال، في فرض الإتاوات المالية الباهظة التي تجبى إليها مباشرة؛ مما جعل الناس يئنون تحت هذا الإرهاق، فقد استغل الحكام الساخطون هذا الضغط العام ليثيروا السخط العام على الكنيسة؛ واستخدموا لهذه الغاية كل وسيلة؛ وفي أولها فضح رجال الدين؛ وكشف أقذارهم وأدناسهم، وبيان خبايا حياتهم الشخصية، التي يخفونها وراء وقار الزي الكهنوتي والمراسم الكنسية!!!

* * *

وكانت القاصمة التي تم بها ذلك (الفصام النكد) وانتهى بها الأمر في أوروبا بين الدين والحياة، وانقطع بها نهائياً ما بين التصور الاعتقادي والنظام الاجتماعي من سبب.. بل كانت الجناية الكبرى التي جنتها الكنيسة الغربية على نفسها، وعلى الدين النصراني، ثم على الدين كله في الأرض جميعاً-إلى أن يأذن الله بتغيير الأحوال- هي ذاك:

لقد احتجزت (الكنيسة) لنفسها حق فهم (الكتاب المقدس) وتفسيره، وحظرت على أي عقل من خارج (الكهنوت) أن يحاول فهمه او تفسيره.

ثم اتبعت هذا بإدخال معميات في العقيدة لا سبيل لإدراكها او تصورها او تصديقها.. وقد ذكرنا مثلاً من هذه المعميات في النص الذي نقلناه عن (سيرت.م.أرنولد)عن حقيقة السيد المسيح وطبيعته..

ثم أدخلت مثل هذه المعميات في الشعائر التعبدية.. والمثال الصارخ لها هو مسألة (العشاء الرباني) الذي كان أحد الحالات التي ثار عليها مارتن لوثر وكالفن وزنجلي فيما سمي (بالإصلاح الديني).

ومسألة العشاء الرباني مسألة مستحدثة ما جاء بها (الكتاب المقدس) عندهم، وما تعرض لها النصارى الأولون، ولا (المجامع المقدسة) الأولى.. وقصتها كما يلي:

إن النصارى يأكلون في الفصح خبزاً، ويشربون خمراً، ويسمون ذلك (العشاء الرباني).

وقد زعمت الكنيسة أن ذلك الخبز يستحيل إلى جسد المسيح وذلك الخمر يستحيل إلى دم المسيح المسفوك. فمن أكلهما وقد استحالا هذه الاستحالة فقد ادخل المسيح في جسده. بلحمه ودمه...

وقد فرضت الكنيسة على الناس قبول هذا الزعم ومنعتهم من مناقشته. وإلا عرضوا أنفسهم للطرد والحرمان.

ثم لم تكتف الكنيسة بتلك المعميات والخرافات في العقيدة وفي الشعائر-مع كف الناس عن البحث عن أصولها في (الكتاب المقدس) ومحاولة فهمه او تفسيره- بل اتبعتها بأمثالها في الكون والحياة. فادعت آراء ونظريات جغرافية وتاريخية وطبيعية مما كان سائداً في عصرها، مليئة بالخطأ والخرافة عن الكون والحياة والإنسان. وجعلتها (مقدسة) لا تجوز مناقشتها ولا تصحيحها ولا تجربتها، ولا القول بسواها.

وكانت هذه هي القاصمة! لأنها الباطل الذي يسهل على التجربة بيان بطلانه، وكشف زيفه! ولأنها المنطقة التي أطلق الله فيها العقل الإنساني ليرتادها، وهو مزود بكل المؤهلات التي تمكنه من كشفها وتحقيقها، ولم يفرض عليه فيها نظرية معينة!

وفي هذا يقول السيد أبو الحسن الندوي ما يغنينا عن الإعادة، ويصور اثر هذه القاصمة في ذلك (الفصام النكد) تصويراً مختصراً دقيقاً في كتابه القيم " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " :

( .. ولكن من أعظم أخطاء رجال الدين في أوروبا، ومن اكبر جناياتهم على أنفسهم وعلى الدين الذي كانوا يمثلونه، انهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة، معلومات بشرية، ومسلمات عصرية، عن التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية، ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، وكانت حقائق راهنة لا يشك فيها رجال ذلك العصر، ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني.

( وإذا كان ذلك في عصر من العصور غاية ما وصل إليه علم البشر فانه لا يؤمن عليه التحول والتعارض. فان العلم الإنساني متدرج مترق فمن بنى عليه دينه فقد بنى قصراً على كثيب مهيل من الرمل. ولعلهم فعلوا ذلك بنية حسنة ولكنه كان اكبر جناية على أنفسهم وعلى الدين فان ذلك كان سبباً للكفاح المشئوم بين الدين والعقل والعلم، الذي انهزم فيه الدين، ذلك الدين المختلط بعلم البشر، الذي فيه الحق والباطل، والخالص والزائف.. هزيمة منكرة، وسقط رجال الدين سقوطاً لم ينهضوا بعده. وشر من ذلك كله وأشأم: أن أوروبا أصبحت لا دينية.

ولم يكتف رجال الدين بما ادخلوه في كتبهم المقدسة، بل درسوا كل ما تناقلته الألسن، واشتهر بين الناس، وذكره بعض شراح التوراة والإنجيل ومفسريها من معلومات جغرافية وتاريخية وطبيعية. وصبغوها صبغة دينية، وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها، ونبذ كل ما يعارضها، وألفوا في ذلك كتباً وتآليف، وسموا هذه الجغرافيا التي ما انزل الله بها من سلطان: (الجغرافيا المسيحية) (Christian Geography) وعضوا عليها بالنواجذ، وكفروا كل من لم يدن بها.

وكان ذلك في عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوروبا، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني. فزيفوا هذه النظريات الجغرافية التي اشتملت عليها هذه الكتب وانتقدوها في صرامة وصراحة، واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها بالغيب؛ وأعلنوا اكتشافاتهم واختباراتهم. فقامت قيامة الكنيسة، وقام رجالها المتصرفون في زمام الأمور في أوروبا وكفروهم، واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي، وأنشأوا محاكم التفتيش، التي تعاقب-كما يقول البابا-(أولئك الملحدين والزنادقة الذين هم منتشرون في المدن والبيوت والأسراب والغابات والمغارات والحقول!).. فجدت واجتهدت وسهرت على عملها، واجتهدت ألا تدع في العالم النصراني عرقاً نابضاً ضد الكنيسة، وانبثت عيونها في طول البلاد وعرضها، وأحصت على الناس الانفاس، وناقشت عليها الخواطر، حتى يقول عالم نصراني: " لا يمكن لرجل ان يكون مسيحياً ويموت حتف انفه" ( يقصد الموت موتة طبيعية).

( ويقدر أن من عاقبت هذه المحاكم يبلغ عددهم ثلاثمئة ألف. احرق منهم اثنان وثلاثون ألف أحياء! كان منهم العالم الطبيعي المعروف (برونو)، نقمت منه الكنيسة آراء من اشدها قوله بتعدد العوالم، وحكمت عليه بالقتل، واقترحت بان لا تراق قطرة من دمه! وكان ذلك يعني أن يحرق حياً! وكذلك كان! وكذلك عوقب العالم الطبيعي الشهير (جاليليو) بالقتل لأنه كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس!.

( هنالك ثار المجددون المتنورون، وعيل صبرهم، واصبحوا حرباً لرجال الدين وممثلي الكنيسة، والمحافظين على القديم، ومقتوا كل ما يتصل بهم، ويعزى إليهم، من عقيدة، وثقافة، وعلم، وأخلاق، وآداب، وعادوا الدين المسيحي اولاً، والدين المطلق ثانية، واستحالت الحرب بين زعماء الدين المسيحي-وبلفظ اصح الديانة البولسية- حرباً بين العلم والدين مطلقاً! وقرر الثائرون أن العلم والدين ضرتان لا تتصالحان، وان العقل والنظام الديني ضدان لا يجتمعان؛ فمن استقبل أحدهما استدبر الآخر، ومن آمن بالأول كفر بالثاني. وإذا ذكروا الدين ذكروا تلك الدماء الزكية التي أريقت في سبيل العلم والتحقيق، وتلك النفوس البريئة التي ذهبت ضحية لقسوة القساوسة ووساوسهم، وتمثل لأعينهم وجوه كالحة عابسة وجباه مقطبة، وعيون ترمي بالشرر، وصدور ضيقة حرجة، وعقول سخيفة بليدة؛ فاشمأزت قلوبهم؛ وآلوا على أنفسهم كراهة هؤلاء، وكل ما يمثلونه، وتواصوا به، وجعلوه كلمة باقية في أعقابهم!

( ولم يكن عند هؤلاء الثائرين من الصبر والمصابرة على الدراسة والتفكير، ومن الوداعة والهدوء، ومن العقل والاجتهاد، ما يميزون به بين الدين، ورجاله المحتكرين لزعامته، ويفرقون به بين ما يرجع إلى الدين من عهدة ومسؤولية. وما يرجع إلى رجال الكنيسة من جمود واستبداد وسوء تمثيل، فلا ينبذوا الدين نبذ النواة.. ولكن الحفيظة وشنآن رجال الدين، والاستعجال.. لم يسمح بالنظر في أمر الدين والتريث في شأنه كغالب الثوار، في أكثر الأعصار والأمصار!!!.)

* * *

هذه-باختصار وإجمال شديدين- أهم الملابسات النكدة لذلك (الفصام النكد) الذي تعاني أوروبا-وتعاني معها البشرية كلها اليوم مع الأسف- آثاره التعيسة، وتتجرع كأسه المريرة.

وهذا هو (الدين) الذي ثارت عليه أوروبا.. ثم تابعها في الثورة الببغاوات والقرود في الأرض كلها، دون تفرقة بين دين ودين!

وهذا هو(الدين) الذي ثارت عليه أوروبا.. الدين الذي شوهت معالمه منذ أول خطوة. ثم زيفت خصائصه الربانية، وتصوراته السماوية، وقيمه وأسسه.. ذلك التزييف الشنيع!

هؤلاء هم (رجال الدين) الذين قدموا هذه الجناية على أنفسهم وعلى الدين، وعلى البشرية المنكودة، بقيادة الغرب الموتور من الدين المزيف، ومن رجال الدين المزيفين!

وهي كلها-ولله الحمد- ملابسات (أوروبية) بحتة، وليست إنسانية عالمية-ومتعلقة بنوع معين من (الدين) لا بحقيقة الدين. وخاصة بحقبة من التاريخ خاصة، تملك البشرية أن تتخلص من آثارها التعيسة، حين تفتح أعينها على الحقيقة من وراء دخان المعركة التاريخية!

ولكن هذا الخلاص لن يجيء أبداً عن طريق العقلية الغربية، ولن ينبثق أبداً من هذه العقلية المكبلة بأغلال ذلك التاريخ المرير، وبالرواسب التي خلفتها تلك المعركة التعيسة، وبالموجات التي أطلقتها في الفكر والضمير، وفي الأدب والفن، وفي السياسة والاقتصاد، وفي كل أوضاع الحياة التي قامت على ذلك (الفصام النكد) بعد ما تعمقت جذوره في تربة الغرب المنكود!






انتهى دور الرجل الأبيض

يقول الفيلسوف الإنجليزي المعاصر( برتراند رسل):

لقد انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض. وبقاء تلك السيادة إلى الأبد ليس قانوناً من قوانين الطبيعة. واعتقد أن الرجل الأبيض لن يلقى أياماً رضية كتلك التي لقيها خلال أربعة قرون.. إن الروسي هو الرجل الأبيض الوحيد الذي تسنح له الفرصة لنشر نفوذه في آسيا. والشعوب الآسيوية تمقت الاستعمار، وهم لا يعتقدون أن (للكريملين) غايات استعمارية.. لأنهم لم يجربوه.. بينما رزحوا أجيالاً طويلة تحت سلطان الرجل الغربي، واصبحوا يكرهون تلك التجربة. ولهذا لست اعتقد أن للدولة الغربية فرصة في آسيا. ولكني اعتقد أن الهند قد تعيش في توافق مع العالم الغربي. أما العالم العربي-وكذلك مصر والباكستان- فستنحاز إلى المعسكر الشيوعي!.

أطلق (برتراند رسل) نبوءته هذه عام 1950. وربما يبدو أن الوقائع التي تلت ذلك-وبخاصة سقوط الصين في قبضة الشيوعية- تصدق أساس هذه النبوءة.. ولكننا نلاحظ أنها نظرة قريبة الجذور سطحية المقدمات، مادية الأسباب- وهو ما لا نستغربه من مفكر غربي أياً كانت قيمة تحرره العقلي الذي اشتهر عنه.. فهو أسير عقلية وبيئة ووراثات وحضارة معينة، لا تسمح له بأن يفكر وراءها؛ ولا ان يخرج من إسارها، ليرى الأمر كله جملة، ومن زاوية أخرى جديدة!

* * *

إن المسألة اعمق من هذا بكثير..

لقد انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض، لأن حضارة الرجل الأبيض قد استنفدت أغراضها المحدودة القريبة، ولم يعد لديها ما تعطيه للبشرية من تصورات ومفاهيم ومبادئ وقيم، تصلح لقيادة البشرية، وتسمح لها بالنمو والترقي الحقيقيين.. النمو والترقي للعنصر الإنساني، وللقيم الإنسانية، وللحياة (الإنسانية)..

لقد أصيبت بالعقم-او كادت- بعد ما ولدته في (الماجنا كارتا) الإنجليزية. ومبادئ الثورة الفرنسية. ومبادئ الحرية الفردية التي سادت في ما يسمونه (التجربة الأمريكية).

وكلها كانت قيماً محدودة تروج في فترة خاصة . وتواجه حالات محدودة وأوضاعاً خاصة. ولم تكن رصيداً لبني الإنسان يصلح للبقاء مدة أطول من الفترة التي عاشتها تلك المبادئ الموقوتة!

وكلها كانت مبتوتة عن الأصل الكبير الذي لا تقوم الأنظمة الاجتماعية، ولا تعيش المبادئ والقيم، إلا إذا انبثقت منه، وقامت عليه. الأصل الاعتقادي المرتبط بالله، والتفسير الكلي للوجود، ومركز الإنسان فيه، وغاية وجوده الإنساني.. ومن ثم كانت قيماً محدودة موقوتة لأنها في الأصل قيم مبتوتة!.. (نبات شيطاني) لا جذور له في أعماق الفطرة البشرية، لأنه ليس آتياً من المصدر الذي جاءت منه الفطرة البشرية.

ومن أجل أنها لم تنبثق من ذلك الأصل؛ ولم تجئ من هذا المصدر، فإنها قامت على أساس مناقض لفطرة الحياة، ولفطرة الإنسان؛ ولم تراع في الأسس التي قامت عليها، ولا في الوسائل التي اتخذتها، ولا في الطريق التي سارت فيه.. لم تراع في هذا كله احتياجات (الإنسان) الحقيقية، المنبثقة من طبيعة تكوينه، واصل خلقته وحقيقة فطرته وأهملت إهمالاً شنيعاً أهم مقوماته-التي بها صار الإنسان إنساناً- ولم تهملها فحسب، بل طاردتها في جفوة وعنف..

وكان ذلك كله بسبب تلك الملابسات النكدة، التي أثمرت ذلك (الفصام النكد). فقامت تلك الحضارة-من ثم- على أسس معادية للدين.. أسس فكرية وشعورية وواقعية.. وسارت كذلك-من ثم- في طريق معارض للحقيقة الإنسانية، وللحاجات الحقيقية لبني الإنسان وللقيم الصحيحة التي ينبغي أن تطبع الحياة الإنسانية وتميزها.

ومن ثم اخذ (الإنسان) يشقى شقاءً مريراً بالحضارة، التي قامت أصلاً-او المفروض أنها قامت أصلاً- لخدمته وترقيته وإسعاده.. وحين تتناقض(الحضارة) مع (الإنسان) فالنتيجة الحتمية بعد فترة-تطول او تقصر- من صراع الإنسان مع الحضارة، ومن الآلام والتضحيات، والخسائر والمرارات، ان ينتصر الإنسان، لأنه هو الأصل. ولأن فطرته اعمق وأبقى من أنماط الحضارة الطارئة عليها..

* * *

وعندما يكون هذا هو مقياس البقاء، فإن الروسي يقف مع الإنجليزي والأمريكي والفرنسي والسويسري والسويدي.. وسائر البيض.. على قدم سواء!

لا بل إن الروسي ليبدو متخلفاً بنظامه المتعسف، الذي لا يملك البقاء بغير الوسائل البوليسية البشعة، وبغير(حمامات الدم) و( حركات التطهير) الدورية، ومعسكرات الاعتقال، ومعسكرات الموت... لشدة مصادمته للفطرة الإنسانية في الكليات والجزئيات!

إن الماركسية-من الوجهة النظرية- تقوم على جهالة عميقة بالنفس البشرية وطبيعتها وتاريخها- فضلاً على الجهالة العميقة بالحقيقة الكونية، وتفسير الكون والحياة- فهي إذ تصور جميع الدوافع الإنسانية قائمة على جوعة المعدة والصراع على لقمة الخبز، وتصور جميع الحركات التاريخية منبثقة من تغير أدوات الإنتاج.. تلغي أهم مقومات الإنسان التي تفرق بين تاريخه وتاريخ البهيمة! وتلغي أهم وظائف الإنسان. وهي أن يكون العامل الإيجابي الأول في هذه الأرض وفي أطوار التاريخ.. ثم هي-فجأة- تتصور المستقبل خلواً من كل وراثات البشرية؛ وتفترض أن الناس سيتحولون ملائكة خيرين، ينتج كل منهم أقصى ما في طوقه، ولا يأخذ إلا قدر ما يكفيه.. وكل هذا بدون رقابة، وبدون حكومة، وبدون عقيدة سماوية تطمعه في جنة او تخيفه من نار. وبدون أي سبب معقول.. اللهم إلا ذلك الانقلاب الخرافي العجيب، الذي يتم في طبائع البشر، بمجرد تحطيم العناصر البرجوازية، وتسليم الأمر للبروليتريا.

وإذا كان هذا التصور (العلمي) عن المستقبل يبدو (خرافة) فان ذلك التصور عن التاريخ لا يقل عنه إمعاناً في الجهالة (العلمية) بحقيقة النفس البشرية، وطبيعتها، وتاريخها على السواء.

حين يكون هذا الجهل العميق، وهذه الخرافة الطاغية، هما أساس التصور الماركسي، فإننا لا ننتظر أبداً أن يقوم على أساسه واقع عملي في الحياة التي يزاولها البشر، إلا أن يكون فيه من الاعتساف قدر ما في هذا التصور من رغبة جامحة في مجانية حقائق الفطرة، التي تصطدم اصطداماً عنيفاً بذلك التصور.

ومن ثم اضطرت الماركسية-عند التطبيق العملي- ان تتخلى عن أهم مقدساتها الماركسية! وعللت هذا التخلي الذي يكاد يكون كاملاً، بان الماركسية مذهب متطور، على حين أن ليس هنالك مذهب يحتشد (بالحتميات) احتشاد النظرية الماركسية!

لقد تحطمت النظرية (العلمية) الماركسية تحت مطارق الفطرة في معظم أجزائها الرئيسية. ولم يبق إلا (الدولة) وإلا الأنظمة الديكتاتورية البوليسية، التي تعرفها روسيا جيداً في أيام القيصرية!

ووفق النظرية (المحطمة) فان (الدولة) كان ينبغي أن تكون الآن-وبعد حوالي نصف قرن- في طريقها إلى الذبول والزوال.. ولكن الذي يعلمه كل أحد أن الدولة هناك، تتضخم يوماً بعد يوم، وتبتلع كل شيء – بما في ذلك الشعب نفسه!

ولعله من المفارقات الطريفة أن الماركسية التي تفترض إمكان قيام المجتمع بدون حكومة في نهاية المطاف، هي التي تنتهي فيها الحكومة إلى أن تصبح هي الشيء الوحيد الذي له وجود! حيث لا وجود (للفرد) ولا وجود (للشعب) ولا وجود (لفطرة الإنسان) في ظل ذلك النظام!

إن الماركسية-كمذهب- لا تزيد على أن تكون جهالة (علمية) منقطعة النظير. أما النظام البوليسي الذي قام باسمها ، فهو نظام تعرفه روسيا من قبل أيام القيصرية. وهو نظام يمكن أن تطيقه الشعوب المتخلفة-بعض الوقت- ولكن الآدميين الذين يستشعرون وجودهم (الإنساني) لا يصبرون عليه طويلاً.. وحتى هذه الشعوب التي ترزح تحت وطأته فان فطرتها تقاومه مقاومة عنيفة-على الرغم من طول خضوعها قبله للقيصرية الطاغية- وهو لا يعيش إلا في ظل الإرهاب البوليسي؛ على الرغم من سيطرة (الحزب الشيوعي) القليل العدد، على مرافق البلاد؛ وعلى الرغم من احتكار كل موارد الارتزاق والمعاش في يد الدولة، الأمر الذي يذل لها الرقاب! وعلى الرغم من بلشفة الصغار عن طريق المنظمات الخاصة للأطفال وللشباب. وعلى الرغم من سيطرة الدولة على كل أجهزة التوجيه والإعلام. وعلى الرغم من أن المدرسين جميعاً يتبعون(الأيديولوجية الشيوعية). وعلى الرغم من حركات التطهير لكل من يشك في عدم ولائه للنظام الشيوعي.. فلابد ان يكون هذا النظام من الكراهية والاصطدام بالفطرة إلى الحد الذي لا تجدي كل هذه العوامل الساحقة في جعله آمناً على نفسه من انتقاض الجماهير-او بتعبير آخر من انتقاض الفطرة، التي يستحيل أن تصبر طويلاً على مثل هذا النظام المتعسف- وآية الفشل لأي نظام لا يقوم إلا في حراسة الإرهاب.
__________________
ارضاء الناس غايه لاتدرك
عطر المجالس غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 18:11


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir