من ثم تبدد نبوءة (برتراند رسل) قريبة الجذور سطحية المقدمات مادية الأسباب. لا تخرج عن نطاق التفكير المادي المحدود. سجين هذه الحضارة المادية على كل حال!
إن القضية اعمق من هذا واشمل بكثير. أنها قضية الحضارة المنبتة عن الله، وعن منهجه للحياة. قضية الأنظمة الاجتماعية والمناهج الفكرية والمذاهب الوضعية، التي لم تنبثق من اصلها الواحد الصحيح؛ ومن ثم لم تعط الإنسان التفسير الواحد الصحيح لحقيقة هذا الوجود وعلاقته بخالقه؛ ولحقيقة هذا الإنسان ومركزه في هذا الوجود؛ ولغاية وجوده الإنساني ووسائل بلوغها المشروعة.
إنه (الفصام النكد) الذي تستوي في القيام على أساسه كل الأنظمة السائدة في عالم (الرجل الأبيض)؛ والذي يستوي فيه الروسي والأمريكي، والإنجليزي والفرنسي، والسويسري والسويدي.. وسائر من يتبعهم في الشرق وفي الغرب سواء.
انه ليس هنالك فارق حقيقي-من ناحية الأصل الوضعي لهذه الأنظمة كلها!- ولا عبرة بان تكون الكنائس مثلاً مفتوحة الأبواب في أمريكا الرأسمالية؛ او مغلقة الأبواب في روسيا الشيوعية؛ او مهملة لا لها ولا عليها-مع ضمان حرية الإلحاد- في السويد الاشتراكية!
لا عبرة بهذه الفوارق الشكلية ما دام أن النظم الاجتماعية، والمذاهب الفكرية في هذه البلاد كلها ليست منبثقة انبثاقاً من التصور الاعتقادي الإلهي، الذي يكفل-وحده- التفسير الصحيح لحقيقة الوجود وعلاقته بخالقه؛ ولحقيقة الإنسان ومركزه في هذا الوجود؛ ولغاية وجوده الإنساني.. هذه العناصر الأساسية التي تنبثق منها أسس النظام الاجتماعي، كما تنبثق منها مناهج الفكر الصحيحة، الموصولة بفطرة الإنسان الحقيقية، الملبية لحاجات الإنسان الحقيقية كذلك.
هذه هي القضية في جذورها العميقة الشاملة. لا كما يتصورها-داخل القضبان الفكرية!- (براتراند رسل) شأنه في التفكير من داخل القضبان شأن كل مفكري الغرب، أسارى بيئتهم وحضارتهم وتاريخهم التعيس مع كنيستهم الغاشمة، وفصامهم النكد الذي طبع حياتهم كلها خلال خمسة قرون مريرة!
* * *
ثم ماذا؟
ثم انه الخواء ينخر في روح الحضارة الغربية، بمذاهبها جميعاً. وبأنظمتها جميعاً.. الخواء الذي تختنق فيه روح (الإنسان)، وتنهدر فيه قيمة (الإنسان)، وتنحدر فيه خصائص (الإنسان).. بينما تتكدس (الأشياء) وتعلو قيمتها، وتطغى على كل قيمة للإنسان!
انه الخواء الذي يهدد الحياة الإنسانية ورقيها بالتوقف. بل يهددها بالنكسة والانحدار-على الرغم من ضخامة الإنتاج المادي والفتوح العلمية والتقدم الصناعي- ذلك أن (الإنسان) ذاته لم تراع فطرته، ولا احتياجاته الحقيقية عند إقامة النظام الحضاري الذي ساد!
إن بريق الحضارة المادية لا يجوز أن يغشي أبصارنا عن حقيقة الشقاء الذي باتت تعانيه البشرية في ظل هذه الحضارة. وان الصواريخ المطلقة، والأقمار الصاعدة، لا يجوز ان تلهينا عن الدرك الذي ينحدر إليه (الإنسان) ومقومات (الإنسان)!
إن الإنسان هو اكرم ما في هذه الأرض. انه هو الكائن الأساسي فيها، والمستخلف في مقدراتها. وكل شيء فيها في خدمته-أو ينبغي أن يكون كذلك-و(إنسانيته) هي المقوم الأعلى الذي يقاس به مدى صعوده او هبوطه. وسعادة روحه هي مقياس ما في الحضارة التي يعيش فيها من ملاءمة لطبيعته أو مصادمة..
فإذا رأينا (الإنسان) ينحدر في صفاته (الإنسانية) وفي تصوره للقيم الإنسانية..
إذا رأيناه وقوداً للآلة، او عبداً لها، او تابعاً ذليلاً من توابعها..
إذا رأيناه- تبعاً لهذا- ينحط في تصوره وذكائه وأخلاقه..
إذا رأيناه يهبط في علاقاته الجنسية إلى أدنأ من درك البهيمة..
إذا رأينا وظائفه الأساسية تعطل وتذوي وتتراجع.
إذا رأيناه يشقى ويقلق ويتحير، ويعاني من القلق والحيرة ما لم يعانيه قط في تاريخه من الشقاء والتعاسة والأمراض العصبية والنفسية والشذوذ والعته والجنون والجريمة..
إذا رأيناه هارباً من نفسه ومن المخاوف والقلاقل التي تلفه بها الحضارة المادية ، والأنظمة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والفكرية.
إذا رأيناه هائما على وجهه يقتل سآمته وملله ، بما يقتل به روحه وجسمه وأعصابه، من المكيفات والخمور، او ما يشبه المكيفات والخمور من الأفكار السود، ومذاهب اليأس الكابي والقنوط الملبس والضياع الأليم.. كما في (الوجودية) وغيرها من مذاهب الفكر التعيسة..
إذا رأيناه يئد نسله، او يبيع اولاده، ليشتري بهم ثلاجات وغسالات كهربائية-كما جاءتنا الأنباء عن أوروبا الضائعة..
إذا رأيناه في مثل هذه الحال النكدة.. فان جميع ما يصل إليه (العلم) في معزل عن (روح الإنسان) من تيسيرات للحياة المادية، ومن رفاهيات حضارية.. لا يغير شيئاً من حقيقة الانحدار الذي تهوي إليه البشرية؛ ومن حقيقة الشقاء الذي تعانيه؛ ومن حقيقة التعاسة التي تزاولها.. ثم.. من حقيقة فشل هذه الحضارة وقرب نهايتها.. ومن ثم حقيقة الحاجة الماسة إلي نظام آخر أصيل، بريء-في أساسه- من العيوب الأساسية التي أفسدت حياة البشر؛ وضيعت عليهم ثمار العلم والمعرفة والتقدم الحضاري.. نظام يسمح للإنسانية بان تحقق غاية وجودها الإنساني-كما أرادها خالقها العظيم- وان تستخدم (العقل) و(العلم) و(التجربة) استخداماً آخر، يتناسق مع احتياجاتها الحقيقية؛ ومع مقتضيات فطرتها الأصيلة.
* * *
لقد انتهى دور الرجل الأبيض.. انتهى دوره سواء أكان روسياً أم أمريكياً، إنجليزياً أم فرنسوياً، ام سويسرياً أم سويدياً.. انتهى لان ذلك (الفصام النكد) في التاريخ الأوروبي، وفي جميع المذاهب والمناهج والنظم والأوضاع التي تقوم في الغرب.. قد حدد بدوره نهاية دور الرجل الأبيض!
إنه لابد من قاعدة من التصور الاعتقادي لكافة المذاهب والمناهج والنظم والأوضاع التي تقوم عليها حياة (الإنسان)..
لابد من تفسير صحيح للوجود، ولمركز الإنسان فيه، ولغاية وجوده الإنساني.. وهذا التفسير الصحيح، وذلك التصور المطابق للحقيقة-كما هي في الواقع لاكما يراها الناس من خلال عدسات عقولهم القاصرة وشهواتهم وأهوائهم وانفعالاتهم المتغيرة- ضرورة من ضرورات (الحياة الإنسانية)..
وهذا ما أغفلته حضارة الرجل الأبيض. بل حاربته حرباً شعواء، يستوي في هذا جميع الأنظمة السائدة في الغرب وفي الشرق جميعاً.
والإنسان هو الإنسان منذ نشأ. انه في حاجة إلى (عقيدة) تعمر قلبه؛ وتنبثق منها تصوراته؛ وتقدم له التفسير الشامل لحياته وللكون من حوله؛ ولعلاقته هو والكون بالخالق الأعلى..(عقيدة) ترسم له أهدافاً اكبر من ذاته، واعم من جيله، وابعد من حاضره، وأرفع من واقعه؛ وتربطه بذات علوية، لها عليه رقابة وسيطرة؛ يحبها ويخشاها؛ ويتقي غضبها ويطلب رضاها؛ وينتظر عونها على الخير؛ ويستحي من مواجهتها بالشر؛ ويرجو جزاءها العادل الكامل، الذي يعوض عليه ما يفوته في صراعه للشر في هذه الحياة الدنيا؛ ويربط حياته كلها بها؛ ويتلقى عنها نظام حياته، ومناهج فكره وسلوكه؛ كما يتلقى عنها شعائر عبادته سواء بسواء.. فتستقيم حياته كلها حزمة واحدة، لا فصام فيها ولا صدام..
ولقد يشغل الإنسان بعض الوقت بجوعة الجسد، وما يتعلق بها من الإنتاج بشتى وسائله وصنوفه، ومن المتاع الحسي بشتى ألوانه ومذاقاته.. ولكن هذه الجوعة وكل ما يتعلق بها لا تستغرق الكينونة الإنسانية. وإشباعها لا يسد سائر الجوعات (الإنسانية). وما أن تهدأ هذه الجوعة حتى تتحرك في الكائن الإنساني جوعة أخرى. جوعة لا يسدها الطعام، ولا يرويها الشراب، ولا يكفيها الكساء، ولا تسكنها كل ضروب المتاع.. إنها جوعة من نوع آخر. جوعة إلى الإيمان بقوة اكبر من البشر؛ وعالم اكبر من المحسوس؛ ومجال اكبر من الحياة الدنيا.. وجوعة إلى الوئام بين ضمير الإنسان وواقعه، بين الشريعة التي تحكم ضميره والشريعة التي تحكم حياته. بين منهج حركته الذاتية ومنهج الحركة الكونية من حوله. جوعة إلى (إله) واحد؛ يتلقى منه شريعة قلبه وشريعة مجتمعه على السواء..
وكل نظام للحياة لا يحقق السعادة للكائن البشري إلا إذا تضمن كفاية هذه الجوعات المتعددة في كينونته الواحدة.. وهذه السمة هي التي خلت منها حضارة الرجل الأبيض!
ولهذا السبب-من وراء كل سبب- انتهى دور الرجل الأبيض..
صَيْحَـــاتُ الخَطــــر
والآن تتعالى الصيحات من هنا ومن هناك ؛ منذرة بسوء مصير البشرية في ظل هذه الحضارة المادية الخاوية من الإيمان خواءها من الروح الإنساني-حضارة الرجل الأبيض- وتتنوع هذه الصرخات.. فتارة تكون نذيراً بانحدار البشرية كلها إلى الهاوية. وتارة تكون نذيراً بانحدارها إلى الماركسية! وتتنوع كذلك الاقتراحات لدرء هذا الخطر او ذاك..
ولكنها كلها تحاول عبثاً.لأنها لا تعالج المشكلة من الأساس. ولا ترجع إلى جذور المشكلة العميقة البعيدة في التربة الأوروبية!
ومن خلال تلك الصيحات، ومن خلال هذه الاقتراحات كذلك يتبين لنا نحن مدى قصر النظر، ومدى العمى النوعي عن الرؤية! في العقلية الغربية!
وإننا نكاد نبصر بهؤلاء الحيارى سجناء في قفص من (العلم)! يشد أقدامهم بالأغلال؛ فإذا أرادوا الوثوب، كان أقصى وثوبهم قفزة في داخل القفص! او سجناء في قفص من (الواقع) يعجزهم عن الاستشراف لما وراءه!
وهي ظاهرة تلقي علينا-نحن أصحاب المنهج الإسلامي- تبعة خطيرة.. إن الإنقاذ الحقيقي للبشرية المهددة في كينونتها الإنسانية، لا يجيء إلا عن طرق تحطيم هذا القفص، والخروج منه، ورؤية الوضع كله من زاوية مستقلة تماماً: وتقديم تصور كلي شامل للمشكلة، واقتراح حلول مبتكرة ، تنبثق من هذا التصور الشامل الجديد.
ولا نريد أن نسبق السياق.. فلنبدأ بإثبات نموذجين من نماذج تلك الصيحات المنذرة بالخطر؛ وتلك الاقتراحات المقدمة من زاوية النظر القصير، او العمى النوعي!
أحد هذين النموذجين لعالم كبير من علماء هذا القرن هو دكتور ألكسيس كاريل. والآخر لسياسي خطير من ساسة هذا الجيل هو مستر دالاس وزير الخارجية الأمريكية..
* * *
كتب دكتور ألكسيس كاريل كتاباً تقع ترجمته العربية في ست وسبعين وثلاثمئة صفحة من القطع المتوسط، بعنوان: (الإنسان ذلك المجهول) ([10]) ضمنه شهادة ضد الحضارة المادية القائمة، لقتلها أهم خصائص الإنسان؛ وأطلق فيه صيحة مدوية بالأخطار التي تهدد الجنس البشري من جراء الاعتداء على القوانين الطبيعية، التي لا تدع المعتدين عليها بلا عقوبة؛ وأعلن جهل (العلم) بحقيقة الإنسان. بل بأبسط حقائق تكوينه الجسدي ذاته!
ونحن هنا نقتطف نتفاً من هذه الشهادة؛ ومن صيحة الخطر المدوية فيها؛ ومن اقتراحاته كذلك لتلافي هذا الخطر الداهم:
(إن هدف هذا الكتاب هو أن يضع تحت تصرف كل شخص مجموعة من المعلومات العلمية التي تتعلق بالكائنات الحية في عصرنا. فقد بدأنا ندرك مدى ما في حضارتنا من ضعف.. وكثيرون يرغبون في أن يلقوا عنهم التعاليم التي فرضها عليهم المجتمع الحديث. ولهؤلاء أكتب هذا الكتاب.. كذلك كتبت لأولئك الذين يجدون من أنفسهم شجاعة كافية ليدركوا-ليس فقط ضرورة إحداث تغييرات عقلية وسياسية واجتماعية- بل أيضاً ضرورة قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري… ) (ص 11-12 مقدمة الكتاب)
(إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب، لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ أنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس، وأوهامهم، ونظرياتهم ورغباتهم . وعلى الرغم من انها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا...) (ص38)
(لقد أهمل تأثير المصنع على الحالة الفسيولوجية والعقلية للعمال، إهمالاً تاماً عند تنظيم الحياة الصناعية. إذ أن الصناعة العصرية تنهض على مبدأ: " الحد الأقصى من الإنتاج بأقل التكاليف " حتى يستطيع فرد او مجموعة من الأفراد أن يحصلوا على اكبر مبلغ مستطاع من المال. وقد اتسع نطاقها دون أي تفكير في طبيعة البشر الذين يديرون الآلات، ودون أي اعتبار للتأثيرات التي تحدثها طريقة الحياة الصناعية التي يفرضها المصنع على الأفراد، وأحفادهم...) (ص40)
(يجب أن يكون الإنسان مقياساً لكل شيء. ولكن الواقع هو عكس ذلك. فهو غريب في العالم الذي ابتدعه! انه لم يستطع أن ينظم دنياه بنفسه، لأنه لا يملك معرفة عملية بطبيعته... ومن ثم فان التقدم الهائل الذي أحرزته علوم الجماد على علوم الحياة هو إحدى الكوارث التي عانت منها الإنسانية... فالبيئة التي ولدتها عقولنا واختراعاتنا غير صالحة لا بالنسبة لقوامنا ولا بالنسبة لهيئتنا ... إننا قوم تعساء، ننحط أخلاقياً وعقلياً... إن الجماعات والأمم التي بلغت فيها الحضارة الصناعية اعظم نمو وتقدم هي على وجه الدقة، الجماعات والأمم الآخذة في الضعف؛ والتي ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من عودة غيرها إليها. ولكنها لا تدرك ذلك، إذ ليس هناك ما يحميها من الظروف العدائية التي شيدها العلم حولها… وحقيقة الأمر أن مدنيتنا مثل المدنيات التي سبقتها، أوجدت أحوالاً معينة للحياة من شأنها ان تجعل الحياة نفسها مستحيلة.وذلك لأسباب لا تزال غامضة… إن القلق والهموم التي يعاني منها سكان المدن العصرية تتولد عن نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية…) (ص44)
(إننا لن نصيب أية فائدة من زيادة عدد الاختراعات الميكانيكية. وقد يكون من الأجدى أن لا نضفي مثل هذا القدر الكبير من الأهمية على اكتشافات الطبيعة والفلك والكيمياء. فحقيقة الأمر أن العلم الخالص لا يجلب لنا مطلقاً ضرراً مباشراً. ولكن حينما يسيطر جماله الطاغي على عقولنا، ويستعبد أفكارنا في مملكة الجماد، فانه يصبح خطراً. ومن ثم يجب أن يحول الإنسان اهتمامه إلى نفسه والى السبب في عجزه الخلقي والعقلي. إذ ما جدوى زيادة الراحة والفخامة والجمال والمنظر وأسباب تعقيد حضارتنا إذا كان ضعفنا يمنعنا من الاستعانة بها فيما يعود علينا بالنفع؟ حقاً انه لمما لا يستحق أي عناء أن نمضي في تجميل طريق حياة تعود علينا بالانحطاط الخلقي، وتؤدي إلى اختفاء أنبل عناصر الأجناس الطيبة) (ص60)
(الإنسان نتيجة الوراثة والبيئة، وعادات الحياة والتفكير التي يفرضها عليه المجتمع العصري.. ولقد وصفنا كيف تؤثر هذه العادات في حسه وشعوره... وعرفنا انه لا يستطيع تكييف نفسه بالنسبة للبيئة التي خلقتها (التكنولوجيا) وأن مثل هذه البيئة تؤدي إلى انحلاله؛ وان العلم والميكانيكا ليسا مسؤولين عن حالته الراهنة، وإنما نحن المسؤولون لأننا لم نستطع التمييز بين الممنوع والمشروع… لقد نقضنا قوانين الطبيعة، فارتكبنا بذلك الخطيئة العظمى. الخطيئة التي يعاقب مرتكبها دائماً.. إن مبادئ (الدين العلمي) و(الآداب الصناعية) قد سقطت تحت وطأة غزو الحقيقة(البيولوجية). فالحياة لا تعطي إلا إجابة واحدة حينما تستأذن في السماح بارتياد (الأرض المحرمة).. إنها تضعف السائل! ولهذا فان الحضارة آخذة في الانهيار، لأن علوم الجماد قادتنا إلى بلاد ليست لنا. فقبلنا هداياها جميعا بلا تمييز ولا تبصر! ولقد اصبح الفرد ضيقاً، متخصصاً، فاجراً، غبياً، غير قادر على التحكم في نفسه ومؤسساته). (ص322).
ولسوف يكون من الصعب أن نتخلص من مذهب ظل يسيطر خلال اكثر من ثلاثمائة عام على عقول القوم المتحضرين..
فإذا كان على الحضارة العلمية ان تتخلى عن الطريق الذي سارت فيه منذ عصر النهضة، وتعود إلى ملاحظة المادة الجامدة ببساطة، فسوف تقع أحداث عجيبة على الفور..
ستفقد المادة سيادتها؛ ويصبح النشاط العقلي كالنشاط الفسيولوجي. وسيبدو ألا مفر من دراسة الوظائف الأدبية والجمالية والدينية، كدراسة الرياضيات والطبيعة والكيمياء..
وسوف تبدو وسائل التعليم الحالية سخيفة، وتضطر المدارس والجامعات إلى تعديل برامجها..
وسيسأل علماء الصحة عن السبب الذي يحدوهم إلى الاهتمام فقط بمنع الأمراض العضوية دون الأمراض العقلية، والاضطرابات العصبية، كما سيسألون عما يجعلهم لا يبذلون اهتماماً بالصحة الروحية؟ ولماذا يعزلون المرضى بالأمراض المعدية، ولا يعزلون أولئك الذين ينشرون الأمراض العقلية والأدبية؟ ولماذا يعتبرون العادات المسئولة عن الأمراض العضوية عادات ضارة، دون العادات التي تؤدي إلى الفساد والإجرام والجنون؟
ولسوف يدرك الاقتصاديون أن (بني الإنسان) يفكرون ويشعرون ويتألمون. ومن ثم يجب أن تقدم لهم أشياء أخرى غير العمل والطعام، والفراغ! وان لهم احتياجات روحية مثل الاحتياجات الفسيولوجية. كما سيدركون أيضاً أن أسباب الأزمات الاقتصادية والمالية، قد تكون أسباباً أدبية وعقلية..
وسوف لا نضطر إلى قبول أحوال البربرية في المدن الكبرى وطغيان المصنع والمكتب، وتضحية الكبرياء الأدبية في سبيل المصلحة الاقتصادية، او تضحية العقل للمال.. ويجب أيضاً أن ننبذ الاختراعات الميكانيكية التي تعرقل النمو البشري.
( وسوف لا يبدو الاقتصاديون، وكأنهم المرجع النهائي لكل شيء.
(ولما كان من الواضح أن تحرير الإنسان من مذهب (المادية) سوف يقلب اغلب جوانب حياتنا، فان المجتمع العصري سوف يعارض بكل قوته هذا التقدم في آرائنا)... (ص329-331)
(مهما يكن، يجب ان نتخذ دواعي الحيطة حتى لا يحدث فشل المادة رد فعل روحي. إذ لما كانت (التكنولوجيا) وعبادة المادة لم يصيبا نجاحاً، فقد يستشعر الناس إغراءً عظيماً لاختيار الطقوس المضادة.. طقوس العقل.. ولن تكون رئاسة السيكولوجيا أقل خطراً من رئاسة الفسيولوجيا والطبيعة والكيمياء! فقد احدث (فرويد) أضراراً اكثر من التي أحدثها أكثر علماء الميكانيكا تطرفاً! فان من الكوارث أن نختزل الإنسان إلى جانبه العقلي، مثل اختزاله إلى آلياته الطبيعية-الكيماوية.. ولا مفر من دراسة الصفات الطبيعية لمصل الدم وتوازنه الايوني، وقابليته اختراق البروتوبلازم... الخ. كما ندرس الأحلام والشهوة والتأثيرات السيكولوجية للصلاة وذاكرة الكلمات... الخ. بيد أن استبدال الروحي بالمادي لن يصحح الخطأ الذي ارتكبته النهضة... فاستبعاد المادة سوف يكون أكثر إضراراً بالإنسان من استبعاد العقل! وإنما سيوجد الخلاص فقط في التنحي عن جميع المذاهب (ص331-332)
* * *
هذه هي خلاصة صيحة دكتور كاريل.. فما هي اقتراحاته؟
ما الحل الذي يقترحه للخلاص؟ ما المنهج الذي يصحح غلطة عصر النهضة في الإيمان بالمادة-والمادة وحدها- وفي الوقت ذاته لا يسبب الغلطة الأخرى بإهمال المادة وإنما يسير وسطاً، يلحظ جوانب الإنسان كلها ، وجوانب الحياة الإنسانية كلها ؟ ما المنهج الذي يجعل الإنسان سيداً للمادة، دون ان يهملها او يلجأ إلى سيكلوجية فرويد المضللة، او إلى رهبانية القرون الوسطى المعطلة للحياة؟
وماذا عنده بعد هذا الإدراك العميق للكارثة التي تهدد الجنس البشري. ومناداته بضرورة (قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري) و(التنحي عن جميع المذاهب)؟.
إننا نستمع إليه فنسمع عجباً، ونرى عجباً كذلك!
( إنا ضحايا تأخر علوم الحياة عن علوم الجماد)!
( إن العلاج الوحيد الممكن لهذا الشر المستطير هو معرفة اكثر عمقاً بأنفسنا. فمثل هذه المعرفة ستمكننا من أن نفهم ما هي العمليات الميكانيكية التي تؤثر بها الحياة العصرية على وجداننا وجسمنا.. وهكذا سوف نتعلم كيف نكيف أنفسنا بالنسبة للظروف المحيطة بنا، وكيف نغيرها. إذ لم يعد هناك مفر من أحداث ثورة فيها. ولئن استطاع هذا العلم-علم الإنسان- أن يلقي الضوء على طبيعتنا الحقة، وامكانياتنا، والطريقة التي تمكننا من تحقيق هذه الإمكانيات، فانه سيمدنا بالإيضاح الصحيح لما يطرأ علينا من ضعف فسيولوجي. كذا لأمراضنا الأدبية والعقلية.
( إننا لا نملك وسيلة أخرى لمعرفة القواعد التي لا تلين لوجوه نشاطنا العضوي والروحي؛ وتمييز ما هو محظور مما هو مباح؛ وإدراك أننا لسنا أحراراً لنعدل في بيئتنا وفي أنفسنا تبعاً لأهوائنا..
وما دامت الأحوال الطبيعية للحياة قد حطمتها المدنية العصرية، فقد اصبح (علم الإنسان) اكثر العلوم ضرورة.. (ص44-45)
هذا هو كل ما في جعبة العالم العالمي الكبير؛ بعد كل هذا الإدراك العميق للكارثة المحيقة!
وانتهاء الرجل إلى هذا الاقتراح، واعتباره الحل الوحيد الممكن للمشكلة-مشكلة بقاء هذه البشرية متحفظة بإنسانيتها، او انحدارها منها وتراجعها إلى البربرية الوحشية- اعتباره إن الحل الوحيد الممكن هو (مزيد من علوم الإنسان).. هو ظاهرة تلفت النظر بشدة-كما أسلفنا- إلى فعل هذه الحضارة في تفكير أهلها وتصوراتهم، بحيث تضعهم في قفص حديدي من (حدود العلم والواقع) لا يملكون الخروج من إساره! كما ان هذه الظاهرة تجزم بأن الحل لن يجيء من هناك! لأنه يحتاج إلى راقب يرقب الوضع من خارج القفص لا من داخله!
إن تأخر علوم البشر عن علوم الجماد ليس ظاهرة تلقائية-كما يميل دكتور كاريل في كتابه إلى تقريره- وإنما نتيجة طبيعة-تكاد تكون حتمية- لتقدير قيمة الإنسان ودوره، في التصور الزائف الذي قامت عليه هذه الحضارة، حين افترقت في نشأتها عن التصور الاعتقادي الصحيح. الذي يحمل تكريم الانسان، واعتباره خليفة الله في هذه الأرض..
كما أن تلك الآفات التي ذكرها في نظام الصناعة ووسائل الإنتاج، والتي لا اعتبار فيها لإنسانية الانسان، وخصائصه الثمينة، وحاجاته الحقيقية.. إنما ترجع إلى الأنظمة الاقتصادية المنبثقة من تصورات ومناهج تتوخى العداء للتصور الاعتقادي وللأخلاق الدينية؛ وتسخر من فكرة تدخل العنصر الأخلاقي في نظام الحياة الاقتصادي!
كما أن اعتماد الناس على معلوماتهم القليلة.. او بتعبير أدق على جهلهم المطبق-كما يعبر دكتور كاريل- بفطرة الإنسان وحقيقته، في إقامة أنظمتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية.. لم يأت عفواً. إنما جاء نتيجة مباشرة لروح العداء لكل ما يجيء من عند الله؛ ومن كل ما يمدهم به المنهج الإلهي من معرفة بهذا الإنسان على حقيقته .. هذا العداء الذي قامت هذه الحضارة على أساسه. بسبب تلك الملابسات النكدة بين الكنيسة والعلم في أوروبا..
ومن هذه الإيماءات السريعة ندرك أن الأمر اعمق بكثير مما يتصوره هذا العالم العالمي الكبير؛ ويقف عنده، بسبب القيود التي تشده بها عقليته، الناشئة في ظل تلك الحضارة العقيم!
* * *
وكما أحس دكتور كاريل بالخطر على مقومات الإنسان وكينونته من الحضارة الصناعية المادية.. كذلك أحس مستر دالاس وزير خارجية أمريكا بالخطر على الولايات المتحدة، وعلى العالم الغربي من الشيوعية التي يقوم نظامها الاجتماعي على أساس من (المذهب المادي) ومن (التفسير الاقتصادي للتاريخ).. ووجه مستر دالاس في كتابه

حرب أم سلام) صيحة الذعر من هذا الخطر، وطالب بدفعه، ولكن مقترحاته كذلك جاءت جزئية، لا تعالج المشكلة من جذورها.. لقد طلب من رجال الكنيسة عنده أن يقوموا بما ليس من طوقهم، ولا في طبيعة موقفهم ان يؤدوه، بعد ذلك الواقع التاريخي في حياة الكنيسة وحياة المجتمع منذ عهد بعيد..
وفي فصل بعنوان (حاجاتنا الروحية) يقول:
( إن هناك شيئاً ما يسير بشكل خاطئ في امتنا. وإلا لما أصبحنا في هذا الحرج، وفي هذه الحالة النفسية.. لا يجدر بنا ان نأخذ موقفاً دفاعياً، وان يتملكنا الذعر.. إن ذلك أمر جديد في تاريخنا!
( إن الأمر لا يتعلق بالماديات، فلدينا أعظم إنتاج عالمي في الأشياء المادية، ان ما ينقصنا هو إيمان صحيح قوي. فبدونه يكون كل ما لدينا قليلاً. وهذا النقص لا يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم، او الدبلوماسيون مهما كانت فطنتهم، او العلماء مهما كثرت اختراعاتهم، او القنابل مهما بلغت قوتها!
( فمتى شعر الناس بالحاجة إلى الاعتماد على الأشياء المادية. فإن النتائج السيئة تصبح أمراً حتمياً.
( وفي بلادنا لا تجتذب نظمنا الإخلاص الروحي اللازم للدفاع عنها. وهناك حيرة في عقول الناس، وتآكل لأرواحهم. وذلك يجعل أمتنا معرضة للتغلغل المعادي-كما كشف عنه نشاط الجواسيس الذين تم كشفهم حتى الآن- ولن تستطيع أي إدارة لمكافحة التجسس ان تقوم بحمايتها في هذه الظروف).
( لقد تقابلنا مع أقسى الاختبارات التي يمكن ان يلتقي بها أي شعب.. وهو اختبار الحياة في رفاهية..
( لقد قال يسوع: إن هذه الأشياء المادية سيحظى بها أولئك الذين يعملون من اجل ما أمر به الله، ومن اجل تحقيق عدالته.. ولكن عندما يحدث ذلك فعندئذ يبدأ الامتحان الأكبر. لأن هذه الأشياء المادية-كما انذر يسوع- يمكنها أن تصبح الصدأ الذي ينخر في الأرواح.
( كذلك فإن لدينا نموذجاً معروفاً. فالرجال الذين لديهم إحساس بالواجب إزاء كائن أعلى، يجاهدون لتحقيق إرادته، لأن إيمانهم يمنحهم القوة والفضيلة والحكمة المبسطة 00 إنهم لا يبنون ليومهم فقط، بل للغد؛ وليس لأنفسهم وحدهم، وإنما للجنس البشري. ومجتمع هذا أساسه ستكون من نتائجه الثروة والرفاهية للكثيرين إذا ساعدته الأحوال.. وعندما تأتي هذه المنتجات الفرعية فإنها تكون طيبة، إلى درجة أنها تشجع على الاعتقاد بأنها النهاية المرتقبة! وبذا سيبتعد الناس عن بذل الجهود الإنشائية للأجل الطويل؛ ويبدأون الصراع من أجل الحصول على الأشياء المادية.
( ومع ذلك التغير ينمو خطر متزايد. فالأمريكيون قد حصلوا على الأمن بالطريقة الوحيدة التي يمكن بها ضمان الأمن. أعني كنتيجة فرعية لمسعاهم العظيم. وعندما بدأنا نتقاعس عن سعينا، ونطلب الأمن كنهاية في ذاته، أخذ الأمن يزداد بعداً عنا! وستظل الحال دائماً هكذا، ومهما تكن درجة ثرائنا. فالأمن لا يمكن شراؤه بأي ثمن نقدي 00 وخمسة بلايين ، أو خمسون بليونا لا تكفي. فالأمن والسلام ليسا سلعتين يمكن شراؤهما. لقد حاول الأباطرة الرومان أيام انحدارهم أن يشتروا السلام. وكانت النتيجة فتح شهية أولئك الذين كانوا يسعون إلى تدميرهم.
( وبينما ينحدر نفوذنا وأمننا، فإن نفوذ الشيوعية السوفيتية وأمنها آخذان في الارتفاع 00 إنها تستطيع أن تنفذ –بل هي تنفذ فعلاً- سياسات تحمل طابع " تجربة الشيوعية السوفييتية العظمى" تلك التجربة التي استطاع بها الشيوعيون أن يجتذبوا إليهم خيال شعوب العالم. تماماً كما فعلنا نحن في القرن التاسع عشر بالتجربة الأمريكية العظمى!
( وإننا نعلم أن التصويرات الشيوعية خادعة ومضللة؛ ونعلم أن الشيوعية السوفيتية لن تفتح أبواب التجربة التي قاموا بها في وطنهم للحكم عليها حكماً حرّاً محايداً. ونعلم أن أولئك الذين يقعون في براثنهم من جراء الإغراء الزائف لهذا التصوير، سرعان ما يدركون الفرق بينها وبين الحقيقة 00 إن العنكبوت ينسج بيتاً جميلاً يتألق في ضوء الشمس ويدعوا الذباب إلى صالونه! والدعاية الشيوعية جذابة مثل بيت العنكبوت. ومتى وقع في قبضتها شعب فإن الاستبداد يمتص قواه الروحية 00 ولكن الشيوعية –كأمل- لها قبول عند الجماهير في كل مكان من آسيا، وفي جزر الباسفيك، وجنوب أمريكا، وأفريقيا 00 وحتى في أوروبا الغربية 00
( لقد قال ستالين: إن قوة وحيوية الماركسية –اللينينية، تكمن، في أنها تركز نشاطها العملي في الحاجة في تنمية الحياة المادية للمجتمع.
( ويبدو أن كثيراً من البلاد غير الشيوعية –بما في ذلك الدول المسيحية الغربية- تعطي الأولوية "لتنمية الحياة المادية للمجتمع" وتجعل من "الروحية" أمراً ثانويّاً يتعلق بالأفراد أنفسهم..
( ويتخذ الشيوعيون ذلك مثالاً لكي يثبتوا أنه حتى المجتمعات الغربية كان عليها أن تتبع النظريات المادية للشيوعية! ولا يقوم الزعماء الغربيون بإنكار ذلك بطريقة مقنعة 00 وهكذا يرتفع المستوى الأدبي للشيوعية السوفييتية في العالم بدرجة كبيرة!